آخر الاخبار

shadow

التفسير المتطور للوثيقة الدستورية- قرار إنهاء عضوية السيد محمد الحلبوسي نموذجاً

د. منير حمود الشامي

   تتسم الدساتير المعاصرة بتبنيها في مجمل أحكامها قواعد تقوم عليها تخويل كل سلطة حقوقاً صريحة أو ضمنية من جهة، وعلى تقييدها من خلال بيان تُخومها من جهة أخرى، على أن نصوص الدستور لا تعتبر في بعض الدول مرجعاً وحيداً للقضاء الدستوري وهو يمارس دوره في الرقابة والتفسير، فالأصل أن يُحدد الدستور اختصاصات كل سلطة من السلطات الثلاث كي تباشرها في حدود الدستور، ويمتنع على كل سلطة-طبقاً لمبدأ الفصل بين السلطات- أن تمارس اختصاصات سلطة أخرى. وإن قضاء الدستورية قد استقر على أن رقابته على دستورية النصوص القانونية، غايتها أن تردها جميعاً إلى أحكام الدستور تغليباً لها على ما دونها، وتوكيداً لسموها، لتظل لها الكلمة العليا على ما عداها. لكن النصوص الدستورية ما كان لها أن تفصل أحكامها تفصيلاً دقيقاً يُحيط بكل اجزائها، وإلا كان رصد تفصيلاتها هذه في نصوص الدستور مقتضياً توقّعها ابتداءً، ومؤدياً انتهاءً إلى انزلاق هذه النصوص إلى أخطاء كان ينبغي تجنبها. وهو ما يناقض ما تتوخاه الدساتير في الأعم من الأحوال، من إيجاز يُحيط بالعريض من المسائل التي تُنظمها، وإجمال لا يغوص في تفصيلاتها، كي تظل صامدة- من خلال مرونة تطبيقها-عبر أجيال عديدة تتنوع اهتماماتها واحتياجاتها، وتتباين مقاييسها فيما تراه ملائماً لبناء مجتمعها.

مما دعا القضاء الدستوري المقارن لأن يكسي هذه النصوص لحمها، ويُلقي عليها لباسها، خاصة وأن نصوص الدستور لا تعتبر نافذةً بذاتها في الأعم، فضلاً عن أن غموض معانيها في كثير من مواضعها، يقتضي تدخل جهة الرقابة على الدستورية، لإيضاحها ومواجهة قصورها، مما أشاع القول بأن الدستور وإن كان نقطة البداية التي ترتكز عليها هذه الجهة في عملها، إلا أن اجتهاداتها هي الدستور ذاته، فلا تكون شروحها للدستور إلا محيطة بكل جوانبه، وكأنها وثيقة جديدة مضافة إليه. حيث تقول المحكمة العليا الامريكية في قضية:" Missouri v. Holland:  (1920):" أنه عندما نتعامل مع بعض الالفاظ التي هي في الأساس قانوناً تأسيسياً مثل دستور الولايات المتحدة الامريكية، يجب علينا أن ندرك أن تلك الألفاظ قد تجلب كائناً جديداً إلى الحياة غير ذلك الذي جلبته من قبل واضعوها الأوائل، لقد استغرق الأمر قرنًا وتكلف خليفتهم الكثير من العرق والدم حتى وصلوا لمرحلة كتابة الدستور، الذي ولد كائناً اسمه الامة. هذا الكائن قد طرأ عليه الكثير من المتغيرات وهو بطبيعته عرضه للتطور والتغيير، وبالتالي فالقضايا التي تعرض على هذه المحكمة لابد وأن يتم النظر فيها وفقاً لخبرات القضاة المتراكمة وفي ضوء تجربتهم برمتها، وليس فقط في ضوء ما تقدم قوله وتقريره قبل مئات الأعوام ". وتبرر المحكمة الدستورية العليا في مصر قرارها المرقم 11 لسنة 13 قضائية لسنة 2000م، القاضي بحل مجلس الشعب المصري على الرغم من أن قانونها رقم 48 لسنة 1979م ، وكذلك الدستور المصري لسنة 1971م، لم يتضمن إعطاء المحكمة صلاحية حل مجلس الشعب، إلا أن المحكمة استخلصته من مجمل الكتلة الدستورية، إذ تقول نتيجة للانتهاكات الدستورية التي رافقت العملية الانتخابية ما نصه:" لا يمكن أن تكون النصوص الدستورية - وتلك غاياتها - مجرد نصوص تصدر لقيم مثالية ترنو الأجيال إليها، وإنما قواعد ملزمة لا يجوز تهميشها أو تجريدها من آثارها أو إيهانها من خلال تحوير مقاصدها أو الإخلال بمقتضياتها أو الإعراض عن متطلباتها، فيجب دوما أن يعلو الدستور ولا يعلى عليه وأن يسمو ولا يسمى عليه. ولا يجوز بالتالي أن تفسر النصوص الدستورية بما يبتعد بها عن الغاية النهائية المقصودة منها، ولا أن ينظر إليها بوصفها هائمة في الفراغ، أو باعتبارها قيما مثالية منفصلة عن محيطها الاجتماعي"،  وتقول أيضاً:" أن قهر النصوص الدستورية لإخضاعها لفلسفة بذاتها، يُعارض تطويعها لأفاق جديدة تريد الجماعة بلوغها، فلا يكون الدستور ضامناً لها بل حائلاً دون ضمانها، فالدستور وثيقة تقدمية لا تصد عن التطور، فلا يكون نسيجها إلا تناغماً مع روح العصر، وما يكون كافلاً للتقدم في مرحلة بذاتها يكون حرياً بالاتباع".

وعليه ومما تقدم فان المحكمة الاتحادية العليا مارست دورها بالتفسير المتطور للوثيقة الدستورية في قرارها الاخير بإنهاء عضوية السيد محمد الحلبوسي من مجلس النواب العراقي، فعلى الرغم من عدم وجود نص صريح يخوّلها هذا الاختصاص، إلا أنها نظرت لنصوص الدستور على أنها تتكامل مع بعضها، لتجمعها وحدة عضوية تضم أجزائها، وتوحد بين قيمتها، فلا تنعزل عن محيطها، ولا يُنظَر إلى بعضها استقلالاً عن سواها، بل تتناغم فيما بينها بما يكفل تقابلها وتفاعلها، لا تعارضها وتهادمها. لتقرر المحكمة في حكمها أن الأغراض المخالفة للدستور لا تجوز حمايتها، أياً كان قدر الصعوبة التي تواجهها الجهة القضائية في مجال اثباتها، وأياً كان نوع المخاطر التي تنزلق إليها في مواجهتها لهذه الأغراض وتحريها لها، مؤكدة في حكمها على أن مجلس النواب العراقي هو السلطة التي ينتخبها الشعب وتمثل إرادته للتعبير عن طموحاته، وأن وظائف هذه السلطة لا تنحصر في تشريع القوانين الاتحادية الواردة في المادة 61 من الدستور، بل له وظائف أخرى ذات أهمية كبرى في رسم سياسة الدولة، وبناء الدولة وخدمة الشعب، وهو البوتقة التي ينصهر بها العراقيون جميعاً، فيجب ان تلتزم بقدسية عالية. وأنها-المحكمة- كذلك لم تخرج عن نطاق طلبات المدعي كما يدعي البعض، ولم تتعرض لجريمة التزوير إلا  أنها استعرضت حيثيات الدعوى وأفعال المدعى عليه من أجل افهامها وتوفير الثقة في النظام القضائي، فعندما يكون هناك تسبيب واضح ومنطقي، يمكن للأفراد والمجتمع أن يفهموا الأسس والمبادئ التي تحكم قرار المحكمة. وبالتالي فإن الفعل الذي أقدم عليه النائب محمد الحلبوسي وجدته المحكمة انتهاكاً للعديد من المواد الدستورية والقانونية، والتي أشارت لها في حكمها وهي على سبيل المثال وليس الحصر كالمادة (50،20،16) من الدستور وكذلك المادة (10/سابعاً) من قانون مجلس النواب العراقي رقم 13 لسنة 2018، لذلك فالمحكمة في حكمها لم تسمح بقهر النصوص الدستورية لإخضاعها لفلسفة بذاتها، يُعارض تطويعها لأفاق جديدة تريد الجماعة بلوغها، فلا يكون الدستور ضامناً لها بل حائلاً دون ضمانها، وما يكون كافلاً للتقدم في مرحلة بذاتها يكون حرياً بالاتباع من قبل المحكمة الاتحادية العليا، وهي بذلك مارست عملاً إنشائياً يتجاوز حدود التطبيق الحرفي للنصوص الدستورية ، فالعدالة الدستورية ليست معصوبة العينين وهي ليست عملية حسابية أو آلية.

وأخيراً ليس من شك أن وجود المحكمة الاتحادية العليا يمثل حجر الزاوية، والضمان الأكبر لالتزام السلطات الاتحادية بما رسمه الدستور لها، وتوفير أكثر الضمانات فاعلية في حماية الحقوق والحريات وتأمين العدل وسيادة القانون على الرغم من قصر عمرها، وبالتالي لا ينبغي لأحد حاكماً أو محكوماً أن يضيق بأحكام المحكمة، فدورها كبير في حماية نظامنا الدستوري وفي توفير الأمن القانوني للمجتمع كله، فالأصل في قضاة الدستورية، هو ميلهم إلى الحق وإيمانهم بتطبيق حكم القانون على ضوء نظرة متطورة، وليس تشهياً من جانبهم، يكون فيه مصلحة الوطن والمواطن.

مواضيع ذات صلة