آخر الاخبار

shadow

شكوى الحاكم من القضاء

أ.د.عدنان عاجل عبيد أستاذ القانون الدستوري

    ‏الدستورُ حصنٌ أمين شيده المحكومون بوصفهم أصحاب السلطة الشرعيين ليحموا به حقوقهم من الافتئات وحرياتهم من انتقاص الحكام أو القابضين على السلطة. والقضاء حارسٌ أمين على الحصن هذا، اذ يردُ محاولات التمسك بالسلطة وتزييف إرادة الشعوب على اعقابها ويردع الحكام غير المؤمنين بمنطق الديمقراطية الذين انغرس في نفوسهم حب السلطة والشغف بها، فهو ينزعج من أي إجراء من شأنه يقوض سلطانه أو يحد منها ليكيل التهم أو يهاجم بشتى الوسائل.
‏وقد سجل التاريخ الحديث وقائع شتى اشتكى فيها الحاكم من عدالة القضاء، اذ اشتكى الرئيس الأمريكي (فرانكلين روزفلت) عام 1937 من سطوة المحكمة العليا في الولايات المتحدة وعدّها هي الحاكم بدلاً منه عندما قضت بعدم دستورية مجموعة القوانين المتعلقة بالجانب الاقتصادي لمخالفتها الدستور.
‏وغريبٌ أن تأتي الشكوى من العدالة وهل يشتكي أحداً من العدالة أم الجور ؟! نعم فعادة ما يشتكي الحاكم من عدالة القضاء ويشتكي المحكوم من جور الحاكم، وبين هذا وذاك يبرز دور القضاء المستقل الذي يعبر عنه المرحوم السنهوري بقوله (فالقضاء حر مستقل نزيه لا يهادن ولا يجامل، تقترن احكامه وقراراته بالإلزام لأنه الغوث الذي يفزع اليه الافراد والجماعات متى ظن احد منهم انه مسلوب الحق ، فان من كان مظلوماً او كان يعتقد انه مظلوم ، وكان خصمه قوياً كالإدارة لا بد له من عياذ يلوذ به ويتقدم اليه بشكواه، ولا شيء اكرم للإدارة ولا احفظ لمكانتها من ان تنزل مع خصمها الى ساحة القضاء تنصفه او تنتصف منه، ذلك ادعى الى الحق والعدل واحفظ للهيبة والاحترام). لذا يتوجب على الحاكم شخصاً كان ام حزباً سياسياً وهو يدعي إشاعة العدل بين المحكومين وحكمهم بالمساواة دون تمييز ان يتلقى احكام القضاء بصدر رحب ويدفع باتجاه دعم احكامه وعدم النيل منها لأنه الحَكم الذي سيقضي لصالحه غداً وان قضى ضدهُ اليوم.
‏وإذا ما طلعنا وضع بلدنا العزيز فقد نالت منه أن انياب التسلط وبالأخص بعد أن انتقل النظام الملكي إلى مثواه الأخير عام 1958 وسيطر فيه حكم العسكر المهوسون بالتآمر على بعضهم، لتصبح السلطة جارية يتقاتل عليها الأقوياء للظفر بها وتختفي حقوق المحكومين وحرياتهم كطفل بريء خائف يلوذ خوفاً من بطش الأقوياء.
‏وما انتهت حقبة حكم هؤلاء حتى عادت الحياة المدنية تتنفس الصعداء من جديد فلا أحداً يستأثر بالسلطة فهي تنتقل بالتداول عن طريق إرادة الشعب المعبر عنها في الانتخاب دون الانقلاب. ليغدو القضاء الدستوري المتمثل بالمحكمة الاتحادية العليا الحَكم العادل بين السلطات عندما تستعر جذوة الخلاف بينهم وينطلق من حكم الدستور ويستمد سلطته وإلزامه منه، لذا من يؤمن بالديمقراطية والتداول السلمي للسلطة عليه ان يؤمن بالدستور حكماً، ومن يؤمن بالدستور حكماً عليه ان يؤمن بمؤسساته بمجملها ومن أهمها المحكمة الاتحادية العليا بوصفها جزءً من السلطة القضائية، فلا ينفع شخصنة الحكم واحكام القبضة عليه من شيء امام إرادة الشعب وحرصه على مؤسساته الدستورية ونجاعتها، وليعلم القائمون على شؤون الحكم والسلطة بان دولة القانون لا يخضر لها عود ولا يقوم لها عمود دون قضاءٍ مستقلٍ نزيه قوي، قادر على بسط احكامه بعدل واقتدار .

مواضيع ذات صلة