آخر الاخبار

shadow

حماية القضاء الدستوري الحق في الابداع

أ.د. علي هادي عطية الهلالي / عميد كلية القانون - جامعة بغداد

    كفل دستور جمهورية العراق لسنة 2005 " الحق في الابداع " ((1)) ، ويستدعي ذلك تحديد واجب المحكمة الاتحادية العليا في حمايته  ، ولكن ذلك يتطلب مقاربة واجب المحكمة الاتحادية في ظل الاطار الدستوري والتشريعي المحدد لها من جهة ، بواجب المحكمة الدستورية العليا في مصر واطاره الدستوري والتشريعي ، وبخاصة أنها بينت في حكمها الأخير نطاق حمايتها "للإبداع" واساسه الدستوري وقضت بعدم دستورية القانون الذي يعارض "حرية الابداع "((2)) .

    "الابداع" عند الفلاسفة واللغوين يعني : إيجاد شيء غير مسبوق ، بمعنى : أن الابداع عندهم يراد به الابتكار ، أي: إيجاد الشيء من العدم ، وبهذا فإن الابداع إتيان الجديد غير المسبوق ، ويستوعب ذلك مضامين عدة قد تكون : فنية ، أدبية ، علمية ، ... الخ .

   ولكن اذا كانت المحكمة الدستورية العليا في مصر تعمل في إطار تمييز المشرع الدستوري بين "حرية الابتكار" وكفالتها ضمن "حرية البحث العلمي" من جهة ((3))، و "حرية الابداع الفني والادبي" وكفالتها ضمن "الفنون والآداب" من جهة ثانية((4))، ومؤداه انفصال معنى الابتكار ونطاقه وغايته عن معنى الابداع ونطاقه وغايته ، بيد أن المحكمة الاتحادية العليا في العراق تواجه موقفاً دستورياً مغايراً بدمج المشرع الدستوري "الابداع والابتكار" وكفالتهما ضمن " البحث العلمي" في اطار الحق في التعليم((5))، فضلاً عن عدم تفريد " الابداع الفني والادبي " بنص مستقل ، مما يجعل الجهد القضائي الملقى على عاتق المحكمة الاتحادية اشق في سعيها لكفالة "الحق في الابداع" في أوجه مناحي الحياة كافة دون التوقف بحدود الابداع في مجال البحث العلمي .

   وبالنتيجة إذا لم تكن المحكمة الدستورية العليا في مصر مضطرة الى تقرير : عدم دستورية العقوبة المرصودة لمن يزاول العمل الفني دون ترخيص ، الى اعتماد آلية تفريع الحقوق والحريات بوصف حرية الابداع الفني فرعاً من حرية التعبير ومظهراً من مظاهرها ، كون مؤدى هذا التفريع يصرف النظر عن النص الدستوري الذي يكفل حرية الابداع الفني والادبي "صراحةً"((6)) ، بيد أن  عمل المحكمة الاتحادية العليا بمواجهة النصوص التشريعية التي تبارز حرية الابداع "حقيقة أو ظاهراً" سيكون عملاً استنباطياً شاقاً وبخاصة أنها ستضطر الى اعتماد آلية التفريع للحقوق والحريات الدستورية كونها ستتكأ على نصوص دستورية عامة تستدعي البحث عن مخصصات لها ، أو نصوص مطلقة تستدعي البحث عن مقيدات ، كون المشرع الدستوري مال الى كفالة "الابداع" بوصفه حقاً حين قرره في الفرع الثاني المخصص للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ضمن الفصل الأول "الحقوق" ، ومؤداه أنه يقرر على الدولة واجبات إيجابية  ، أي: اتخاذ مجموعة من البرامج والمستلزمات والبيئة التي تساعد في تهيأة ظروف الابداع ، كما يقرر واجبات سلبية عليها ، أي: التزامها بترك المساحات المساعدة على الابداع والابتعاد عن سلطتها بالتجريم والعقاب في الحيز المطلوب له ، بمعنى: أن نطاق كفالة الدستور "للابداع" يستوعب جميع النتائج التي تترتب على تقرير الوثيقة الدستورية للحقوق .

   ولكن عندما تنظر المحكمة الاتحادية العليا في مبارزة تشريعية للنص الدستوري المقرر "للحق في الابداع" تحتاج الى البحث عن النطاق الدستوري المكفول للحق ومخصصاته ومقيداته ، فإذا ما واجهت المحكمة الاتحادية النص التشريعي المقرر لمنع مزاولة العمل الفني لغير أعضاء نقابة الفنانين ، وترتيبه عقوبة الحبس والغرامة أو باحداهما على مخالفة هذا المنع "مثلاً" ((7)) ، فإن المحكمة يجب ان تتحرى مدى مخالفة مثل هذا النص "للحق في الابداع " وبخاصة للحق في الابداع الفني على تنوع صنوفه ، والاسس الدستورية التي تكفل نطاقه ، والقيود الدستورية التي ترد عليه ؟

   وقد يقال أن اللفظ العام المستخدم بصريح الدستور "الابداع" وعدم تخصيصه بصنف معين من صنوف الابداع "الفني" ، "الادبي" ، "العلمي" .. الخ مؤشر على كون المشرع الدستوري تحرى شمول اللفظ لعمومه ولم يسعى الى تخصيصه ، أو أنه أراد جريان اللفظ على اطلاقه ولم يلتفت الى تقيده ، ولكن استخدام اللفظ ضمن كفالة الحق في التعليم والبحث العلمي يستدعي التردد عن الاتفاق حول شمول اللفظ لعمومه أو اطلاقه  ، كون مواضع اختيار الالفاظ في الوثيقة الدستورية مؤشر على معناها ، مما يتطلب أن تسند المحكمة الاتحادية توجهها لأسانيد دستورية أخرى لتعزيز القناعة .

   وقد تجد المحكمة أن "حق الابداع الفني والادبي" ، وغيره من مظاهر الابداع يستمد من حقوق وحريات أخرى وردت صراحة في الدستور كونه مشتق منها أو متفرع عنها أو بوصفه مظهراً من مظاهرها أو وسيلة لممارستها ، فحرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل أصلاً عاماً للعديد من الحريات الأخرى واخصها "الابداع الفني والادبي" وغيره ، كون التعبير عن الرأي قد يكون من خلال الوسائل الفنية أو الأدبية كافة ، ولا يحده في ذلك سوى النظام العام والآداب بوصفهما قيودا عامة تحد الحرية وتنظم ممارستها ، لذا لا يكون الترخيص المسبق للعمل الفني والادبي الإبداعي أو العقوبة على اتيانهما دون ترخيص موافق لكفالة الدستور لهما ، وبخاصة إذا لم يقف السند الدستوري لهما بحدود التفريع عن حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل فقط  بل تعداه الى أسس دستورية أخرى((8)) ـ

   ولكن رغم أن المحكمة الاتحادية تستطيع أن تصل الى الأسس الدستورية "الصريحة والضمنية المتقدم ذكرها لكفالة " الحق أو حرية الابداع الفني والادبي " وتقرر مدى دستورية التشريعات التي تبارز جوهر هذه الحرية أو هذا الحق إلا انها تبقى بحاجة الى تحديد واجبات الدولة إزاءهما ، فهل على الدولة أن تكتفي بالسماح لهما دون عائق عقابي ، أم عليها أن تتخذ مجموعة من التدابير وأن توفر المتطلبات اللازمة في تهيأة مناخ الابداع الفني والادبي ؟

   إن دور المحاكم الدستورية عموماً والمحكمة الاتحادية على نحو خاص في ظل تحديد الحق في الابداع وحمايته من عسف المشرع ينبع من دور أوسع للمحاكم العليا في العالم بحماية الحريات العامة ، ودعمها التقدم الذي تسعى اليه الدول ، ومواكبتها للمتغيرات ، وتوفير فرص للمبدعين في انتقال الدول من حال التخلف الى حالة من التقدم والازدهار وتدعيم الثقافة والإسراع في التنمية ، بل أن الابداع الفني والادبي قد يكون مصدراً من مصادر تمويل الدول وتحسين وضعها المالي وبخاصة اذا ما كان العمل الإبداعي منتجاً ومسوقاً الى العالم بخطط تسويقية محكمة ؛ لذا يكون دور المحاكم الدستورية دوراً مسانداً لسعي الدول في تحسين وضعها المالي .

  كما قد يرتبط العمل الإبداعي بسعي الدول لتحسين دورها الريادي في المجالات الإبداعية كافة ، وهذا الدور يجعلها في مقدمة الدول الساعية الى المقاصد نفسها ، مما يتطلب من المحاكم الدستورية أن تساند الخطط في رسم السياسات العامة التي تنظم وتخطط وتنفذ سياسات ترتقي بواقع الدول لتنقلها من وضع الى وضع آخر ضمن دول العالم .

((1)) {المادة/ 34-ثالثاً من دستور 2005 }

((2)) { الحكم في الدعوى المرقمة 66 لسنة 31 قضائية دستورية في 28/8/2021 }

((3)) {المادة/66 من دستور 2014}

((4)) {المادة/67 من دستور 2014}

((5)) {المادة/34 – ثالثاً من دستور 2005 }

((6)){ الحكم في الدعوى المرقمة 66 لسنة 31 قضائية دستورية في 28/8/2021 }

((7)) { المواد /36 و 37 من قانون نقابة الفنانين العراقيين رقم 129 لسنة 1969 المعدل النافذ}

((8)) {المواد /2 – اولاً – ب وج و35 و 46 و 50 وغيرها} 

 

مواضيع ذات صلة