آخر الاخبار

shadow

المحكمة الاتحادية العليا والرقابة على الاغفال التشريعي

د.احمد طلال عبد الحميد البدري

 

تعليق في ضوء قرار المحكمة الاتحادية العليا المرقم (161/اتحادية/2021) في 1/2/2022........
اصدرت المحكمة الاتحادية العليا ضمن تشكيلتها الجديدة سلسلة من القرارات النوعية ميزت هذه المرحلة عن المرحلة السابقة للمحكمة التي كانت قراراتها متأثرة بسياقات القضاء العادي وبنظريات القانون المدني واختصارها الشديد والابتعاد عن نظريات وفقه القانون الدستوري والاتجاهات الحديثة للمحاكم الدستورية العليا في دول العالم ، ومع اطلالة العهد الجديد للمحكمة لمسنا كمهتمين ومراقبين للقضاء الدستوري تغير جذري في اتجاهات المحكمة الاتحادية العليا نتج عنها بلورة للمبادىء الدستورية في لجى بحر متلاطم من الاحداث والوقائع الدستورية اعقبت الانتخابات النيابية في العراق التي جرت عام 2021 ، في هذا المقال سنستعرض قرار مهم للمحكمة المذكورة نلمس فيه تبلور لملامح اتجاه المحكمة الاتحادية العليا لبسط رقابتها على اغفال المشرع الكلي او الجزئي لبعض الجوانب التي يفترض معالجتها بموجب تشريع ، وان اغفال تنظيم هذه الجوانب يخل بفاعلية الضمانات الدستورية المقررة للحقوق والحريات العامة  ، وهذا النوع من الرقابة يمكن وصفه بكونه دقيق جدا لانه يمس حدود السلطه التشريعية من جانب ، ولانه قد يراقب نوايا وبواعث الهيئة التشريعية وهذا صعب لانها في الغالب لاتخرج الى الحيز المادي على شكل تشريع يمكن بسط الرقابة عليه، كما يصعب اثباء سوء هذه النوايا والبواعث ، وسنحاول تناول القرار المذكور في المحاور الاتية :
اولاً : خلاصة الادعاء : تتلخص وقائع هذه الدعوى بان المدعي اقام دعوى امام محكمة قضاء الموظفين طاعنا بالغاء عقد البعثة الدراسية ورد طعنه وصدق من قبل المحكمة الادارية العليا ، الاان هيئة تعيين المرجع في محكمة التمييز الاتحادية اصدرت بالاتفاق قرار مفاده بان اختصاصات محكمة قضاء الموظفين ليس من ضمنها الفصل بالمنازعات الناشئة عن تنفيذ العقد او الاخلال في تنفيذه او اي منازعة تتعلق بعلاقه عقدية بين طرفين احداهما الدولة المتمثلة بالوزارات او الهيئات او ماشابه ذلك وحددت محكمة البداءة المختصة بنظر الدعوى على اعتبار ان القضاء الاداري غير مختص نوعيا بنظر مثل هذا النوع من المنازعات وان امحكمة التمييز الاتحادية لديها قرارات سابقه باعتبار القرار الصادرة من محكمة غير مختصه نوعياً قرار معدوم ولاينتج اثره ، وان هنالك قصور تشريعي في قانون المرافعات المدنية رقم (83) لسنة 1969 المعدل فيما يخص الاحكام المعدومة ، كون المادة (160/3) من قانون المرافعات المدنية انف الذكر والتي نصت على ان ( الحكم الذي يصدر من المحكمة يبقى مرعياً ومعتبراً ما لم يبطل او يعدل من قبل المحكمة نفسها او يفسخ او ينقض من محكمة اعلى منها وفق الطرق القانونية ) وان طرق الطعن القانونية المنصوص عليها في المادة (168) مرافعات ليس من بينها جواز الحكم ببطلان القرار المعدوم وهذا يتعارض مع العدالة ، حيث لايصح اعتماد قرار حكم صدر من محكمة غير مختصه كون الاختصاص النوعي من النظام العام لايجوز الاتفاق على خلافه .
ثانيا : خلاصة قرار الحكم : الحقيقية ان موضوع الدعوى الذي يتعلق بانعدام الحكم الصادر من محكمة غير مختصه نوعياً ليس هو محل التعليق ، وانما ينصب التعليق على الفقرة الحكمية الخاصة بمفهوم المحكمة للاغفال التشريعي ، حيث جاء في حيثيات القرار (.... ومن خلال التدقيق والمداولة وجد ان دعوى المدعي تتعلق بموضوع الاغفال او النقص التشريعي وان الاغفال او النقص التشريعي يرتبط ارتباطاً مباشراً بالسلطة التشريعية ، لان مخالفة السلطة التشريعية للدستور يمكن ان يحدث من خلال تشريع القوانين المخالفه لاحكام الدستور او من خلال امتناع المشرع عن ممارسة هذا الاختصاص ، وقد يكون هذا الخلل (الامتناع) متعمداً من جانب المشرع لغايات وبواعث محددة ، او يكون بسبب عدم امكانية التنبؤ بالمستقبل فيأتي النص قاصراً عن تلبة مستجدات الحياة ، وترى هذه المحكمة ان الاغفال التشريعي الذي يكون محلاً لرقابة المحكمة الاتحادية العليا هو ماترتب عليه المساس بحق او ضمانه يقررها الدستور كحق الفرد في الحياة والامن والحرية والتقاضي وضمان المساواة وتكافؤ الفرص وغيرها من الحقوق والحريات التي نص عليهاالدستور وكفلها ....).
ثالثاً: التعليق : مما ورد في الفقرة الحكمية الخاصة بالاغفال التشريعي يمكن ان نسجل الملاحظات الاتية :
1. اشارت المحكمة الاتحادية العليا صراحة الى مصطلح ( الاغفال التشريعي ) مؤكدة سلطة المحكمة في بسط رقاباتها على حالات الاغفال التشريعي الماسة بالحقوق والضمانات التي قررها الدستور وكفلها وهذا امر حسن ، مع ضرورة الاشارة الى ممارسة المحكمة الرقابة على الاغفال الجزئي في العديد من الاحكام منها قراراها (67/اتحادية/2012) في 22/10/2012 وقرارها (20/اتحادية/2012) في 20/5/2012) الذي اكتفت باعلان المشرع عن اغفاله اصدار قانون ينظم ادارة الاوقاف دون ان يتضمن القرار ايعازاً للسلطة التشريعية بتشريع القانون وايضاً قرارها المرقم (48/اتحادية/اعلام/2015) في 22/6/2016 الذي اكتفت فيه الى الكشف عن حالة امتناع المشرع عن تشريع قانون للاحوال الشخصية وفق المادة (41) من الدستور مع وجود تكليف دستوري بالتشريع دون الايعاز للسلطة التشريعيه بتشريعه ، وايضا قرارها (41/اتحادية/اعلام/2017) في 13/6/2017 الكاشف لحالة امتناع المشرع عن تشريع قانون ينظم مساءلة رئيس واعضاء السلطة التنفيذية ، وايضاً حكمها الايعازي المرقم (10/اتحادية/ 2009) في 25/5/2009 المتضمن الايعاز الى لجنه التعديلات الدستورية بتدارك غفلة كاتب الدستور فيما يتعلق بانتخاب رئيس مجلس النواب اواحد نائبيه في حالة شغول المنصب وغيرها من الاحكام لامجال لذكرها وهي اكثرها كاشفة وبعضها ذو طبيعة ايعازية للسلطة التنفيذية لتلافي مواطن الاغفال  .
2. خلطت المحكمة بين بعض المصطلحات وهذا يقتضي ان يتم الاشارة اليها بشكل دقيق لان كل مصطلح يشير الى معنى محدد ، فالاغفال التشريعي قد يكون كلياً في حالة انعدام النص ، وقد يكون نسبياً وهذا ما يعرف بالقصور التشريعي ، والقصور التشريعي من السهل اخضاعه لرقابة الدستورية ، لان الاخيره تنصب على نص تشريعي خرج الى حيز الوجود ، في حين ان الرقابة على نص غير موجود امر صعب وينصرف الى السلوك السلبي للمشرع ، كما ان القصور التشريعي لايمكن ان يحدث الا من خلال السلوك الايجابي للمشرع باصدار التشريع الذي يكون قاصراً في بعض جوانبه ، فالاغفال التشريعي التام لايمكن تصوره الا بسلوك سلبي وهذا السلوك يصنف الى نوعين ، الاول هو الصمت التشريعي او السكوت التشريعي المجرد عن اي الزام دستوري بالتشريع وهو يدخل ضمن نطاق السلطة التقديرية للمشرع ويعد من قبيل ملائمات التشريع ، فالمشرع هو الذي يحدد وقت التدخل بالتشريع وبواعثه واسبابه الموجبة حيث يرى الفقية (ribes) ان سكوت المشرع في مثل هذه الحالة لايعد مخالفة دستورية او تشكل اغفالاً تشريعياً رغم موقف المشرع السلبي حيث يكون التزام المشرع سياسياً وليس قانونياً ، وهذا في العادة لايخضع لرقابة القضاء الدستوري ، الا في حالات معينه كحالات الصمت التشريعي الطويل عن موضوع اصبح ضرورة اجتماعية وهذا ما حصل في القضاء الدستوري الالماني عندما تدخل في صمت المشرع الالماني عن عدم تنظيم بعض المسائل الاجتماعية  ، اما النوع الثاني فهو الامتناع التشريعي ، ويعني امتناع المشرع عن القيام بواجبه بالتشريع مع وجود الزام دستوري بالتشريع ، في هذه الحالة يلزم المشرع باتخاذ موقف ايجابي بالتشريع لنقل النصوص الدستورية الى حيز الواقع ، ففي هذه الحالة يخرج التشريع من نطاق السلطه التقديرية ويكون اختصاص ملزم بالتشريع دون هامش تقديري ، وان الامتناع في هذه الحالة يشكل مخالفه دستورية لانه يمثل اصرار من جانب المشرع على اتخاذ موقف سلبي في تشريع قانون ما مع علمه بموجبات التكليف الدستوري بالتشريع ، فيكون المشرع امتنع عن اصدار تشريع اوجب الدستور تشريعه ، اما النوع الثالث من الاغفال فهو الاغفال غيرالمباشر ويتحقق من خلال قيام المشرع بالافراط بالاحالة التشريعية للسلطة التنفيذية او التسلب من الاختصاص التشريعي ، لذا ان استخدام المصطلحات يحدد نوع الاغفال وطبيعه الرقابة ونطاقها .
3. نحن من المؤيدين لبسط المحكمة الاتحادية العليا لرقابتها على حالة امتناع المشرع المقترن بتكليف دستوري بالتشريع ، رغم عدم وجود نص بذلك ، كما فعلت بعض التشريعات كالدستور البرتغالي لسنة 1976 الذي اعطى للمحكمة الدستورية العليا مراقبة حالات انتهاك الدستور عن طريق الامتناع عن اتخاذ التدابير التشريعية ، وكذلك الدستور البرازيلي لسنة 1988 ودستور جنوب افريقيا لسنة 1996 الذي اعطى للمحكمة الدستورية اختصاص تحريك الرقابة على الاغفال التشريعي من تلقاء نفسها حتى بدون وجود خصومة دستورية   .
4. ندعو المحكمة الاتحادية العليا الى الاخذ بفكرة المدة المعقولة لتفادي حالات الاغفال التشريعي من قبل المشرع حيث استقر القضاء الدستوري في المانيا واسبانيا وايطاليا على مدة (4) سنوات كمدة معقولة لتلافي المشرع حالات الاغفال التشريعي اذ يتحول الصمت التشريعي من رخصة تدخل في ملائمات السلطة التقديرية الى امتناع يحرك الرقابة القضائيه عليه ، ولو تمعنا في نصوص دستور جمهورية العراق لسنة 2005 لوجدنا ان هنالك الكثير من النصوص توجب على المشرع سن قوانين لتنظيم الحقوق والحريات الواردة فيها الا ان المشرع ممتنع عن سنها ، وان مرور مدة اكثر من (15) على صدور الدستور تعد من وجهة نظرنا مدة كافية لتحريك رقابة الامتناع على المشرع .
5. اشار قرار المحكمة الاتحادية العليا الى اسلوبين لمواجهة الاغفال التشريعي وهو اسلوب الاحكام الكاشفه والاحكام الايعازية فقط حيث جاء في حيثيات القرار ( ...ان القضاء الدستوري هو المسؤول عن الزام السلطات باحترام احكام الدستور ويكون ذلك بالاشارة الى مواطن الاغفال او القصور في التشريع محل الطعن واشعار السلطة التشريعية بذلك بغية معالجتها باعتبارها صاحبة الاختصاص الاصيل في التشريع او توجيه توصيه ملزمة الى المشرع لتلافي هذا الاغفال ...)، ندعو المحكمة الاتحادية الى تنويع وسائل المواجهة للاغفال التشريعي الذي يمثل انتهاك للسمو الشكلي او الموضوعي للدستور من خلال اعتماد الاحكام الصادرة بعدم دستورية النصوص المشوبه بالاغفال التشريعي الجزئي (القصور التشريعي) في حال عدم استجابة المشرع لنداء او ايعاز المحكمة الاتحادية العليا، او من خلال الاحكام التفسيرية الخلاقه او الاحكام القضائية المضيفه او المكملة ، وتبقى الاحكام الصادرة بعدم الدستورية اخر وسيلة تلجأ اليها المحكمة لاعلان عدم دستورية تشريع بسبب قصوره التشريعي الذي اخل بضمانه دستورية في حال استمرار المشرع بعدم الاستجابة لتنبيه او نداء او توجيه المحكمة الاتحادية العليا ، امامسؤولية امتناع المشرع فهي سياسية بامتياز قد تصل الى سحب التفويض التشريعي من الهيئة التشريعية .
لما تقدم ندعو المحكمة الاتحادية العليا الى بلورة منهاج ثابت لرقابة الاغفال التشريعي في نطاق الدستور مع تنويع وسائل مجابهة الاغفال التشريعي للحد من هذه الظاهرة وضمان التزام المشرع بتلافيه ....والله الموفق .

 

للاطلاع على القرار161/اتحادية/2021    اضغــــط هـــــنــــــــا

 

مواضيع ذات صلة