آخر الاخبار

shadow

المحكمة الاتحادية العليا وضوابط العدول الذاتية عن الاحكام القضائية _ تعليق على قرارها المرقم (158/اتحادية/2022) في 16 /8 /2022

د.احمد طلال عبد الحميد البدري

     العدول عن الاحكام في القضاء الدستوري ظاهرة قضائية مستقرة في معظم المحاكم العليا ، والسبب يرجع الى ما تتمتع به هذه احكام هذه المحاكم من حجية مطلقة ترجع الى كونها غير قابلة للطعن بطرق الطعن القضائية المعروفة على مستوى القضاء العادي ، والمحكمة الاتحادية العليا في رغم حداثة تشكليها نسبياً الى انها اخذت بما انتهى اليه القضاء الدستوري في العالم ومنه الاخذ بمبدأ العدول القضائي استجابة للمتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والانسانية ، والعدول عن الاحكام القضائية والذي يطلق عليه الفقه احياناً مصطلح ( التحول في الاحكام ) يعني تغير اتجاهات المحكمة القضائية وتبني حكم او حل جديد متناقض مع حكم قديم بسبب ظروف سياسية او اجتماعية او اقتصادية او قانونية وعادة ما يكون هذا التحول بإرادة القضاء الدستوري ، وقد يكون هذا التحول على مستوى تفسير نصوص الدستور فيتبنى القضاء الدستوري بإرادته تفسيراً جديداً لنص دستوري متناقض او متعارض لتفسير سابق لذات النص ، وهذا التحول في الاحكام اساسه سنة التطور وما كان مقبولاً في الامس لا يمكن قبوله اليوم في ظروف معينه وهذه العـلة الاساسية للعدول او التحول في الاحكام القضائية ، ولذلك فأن مبررات العدول متنوعه ما بين دعم القضاء الدستوري للحقوق والحريات العامة وما بين دعم للمبادئ الاساسية الواردة في الدستور وما بين تصحيح الاحكام الدستورية السابقة ، ولذلك نجد ان تطبيق مبدأ العدول القضائي اختلف وتباين بين تشكيلة المحكمة السابقة وتشكيلتها الحالية التي كانت اكثر استجابةً لمبدأ التفسير المتطور للدستور في مجال الرقابة على دستورية القوانين ، فالمحكمة الاتحادية العليا تتأثر بالظروف الخارجية لعمل المحكمة وحتى الظروف الداخلية ، فهي تتأثر بالظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، كما تتأثر بالآراء الفقهية والقضائية الداخلية والخارجية ، ورغم التشكيلة القضائية للمحكمة الاتحادية العليا الذي يجعلها في منأى عن التأثيرات السياسية الا ان العدول القضائي يشكل احياناً اداة توافقية بين اعضاء المحكمة اتجاه ما يعرض عليها من قضايا فقد يتبنى اعضاءها اراء مخالفة للأحكام التي صدرت ضمن هيئة سابقه كانت تتبنى رؤى اخرى في ذات الموضوع ، الا ان التحول القضائي يجب ان يكون محاطاً بضمانات تقلل من تأثير العدول المفاجىء للمحاكم العليا باعتبار ان الاخيرة هي المسؤولة عن تحقيق الامن القضائي ، وسنحاول الاشارة الى دور المحكمة الاتحادية العليا في بلورة منهاجها الخاص وضوابط العدول او التحول القضائي فيما يأتي :

اولا: دأبت المحكمة الاتحادية العليا ومنذ بداية تشكيلها على الاحتفاظ بقدر من المرونة للعدول عن احكامها ، فهنالك قرارات صدرت في بواكير تشكيلها تشير الى مبدأ العدول رغم خلو قانون المحكمة ونظامها الداخلي آنذاك من حق المحكمة في العدول عن الاحكام ، حيث ذهبت المحكمة الاتحادية في قرارها المرقم (13/اتحادية /2007) في 31 /7 /2007 الى حصر اختصاص مجالس المحافظات في اصدار القوانين المحلية بما يمكنها بإدارة شؤونها وفق مبدأ اللا مركزية الادارية دون ان يكون لها حق اصدار قوانين اخرى ، الا انها عدلت خلال مدة وجيزة عن هذا القرار بموجب قرارها المرقم (16/اتحادية /2008) في 21 /4 /2008 عندما اجازت لمجالس المحافظات الغير مرتبطة بإقليم بإصدار القوانين الخاصة بفرض وجباية الضرائب والرسوم والغرامات وانفاقها ، وكذلك عدولها عن قرارها الذي يعد المادة (113) من قانون اصول المحاكمات الجزائية لقوى الامن الداخلي رقم (17) لسنة 2008 والتي تمنع احالة منتسبي وزارة الداخلية الى المحاكم الا بعد موافقة وزير الداخلية لخصوصية عملهم غير متعارضه مع احكام المادة (47) من الدستور التي نصت على مبدأ الفصل بين السلطات ، الا انها عدلت عن هذا الاتجاه وقررت عدم دستورية المادة (113) سابقه الذكر كونها تتعارض مع المادة (47) من الدستور بموجب قرارها المرقم (115/اتحادية/2017) في 24 /10 /2017 ربما لتصحيح قرارها السابق لان موافقة الوزير المختص في السلطة التنفيذية يتداخل مع عمل السلطة القضائية وبالتالي يشكل خرقاً لمبدأ الفصل بين السلطات ، كذلك رفضت المحكمة الاتحادية العليا قبول الدعوى الدستورية المقامة من قبل النواب شكلاً لعدم توفر شرط المصلحة وهذا ما افصحت عنه في قرارها المرقم (87/اتحادية/2013) في 16 /9 /2013 ، الا انها عدلت عن هذا الاتجاه وقبلت الدعاوى المقامة من قبل النواب مؤسسسة هذا العدول على تفسير المركز القانوني للنائب باعتباره ممثلاً للشعب كله وان القانون المطعون به قانون عام يخص المصلحة العامة وليس طلباً شخصياً يستلزم تحقق المصلحة الشخصية فيه ، وهذا ما افصحت عنه في قرارها المرقم (87/اتحادية/2013) في 16 /9 /2013 ، الا ان المحكمة الاتحادية العليا عدلت مجدداً عن قرارها السابق في قرارها المرقم (88/اتحادية /2022) في 1 /8 /2022 لأسباب نراها قانونية تتمثل في ان ليس من مهام النائب المحددة في المواد (60) و(61) و(62) من الدستور اقامة دعاوى قضائية استثناءاً من شرط المصلحة المنصوص عليها في المادة (20/ اولاً) من النظام الداخلي للمحكمة الاتحادية العليا رقم (1) لسنة 2022 .

ثانياً : مع تشكيلة المحكمة الاتحادية الجديدة بدأ يتبلور منهج  العدول عن الاحكام القضائية بصورة اكثر نضجاً واحترافية في العمل القضائي انعكس على جودة الاحكام القضائية الصادرة عن هذه المحكمة  ومنها قرارها المرقم (90/اتحادية /2019) في 28 /4 /2022 ، المتضمن العدول عن اتجاهاتها السابقة الخاصة برفع الحصانة البرلمانية عن اعضاء مجلس النواب واعادة تفسير الاغلبية المطلقة والبسيطة حيث جاء هذا القرار مصححاً للقرارات السابقة حيث اعادة تفسير المواد (76/رابعاً) و (61/ثامناً/أ) وهو اتجاه سليم يتفق والتفسير المتكامل للدستور في اطار وحدته العضوية ، وايضاً اعادة تفسير المادة (63) من الدستور وتقليل من نطاق الحصانة البرلمانية بما يسمح للقضاء من تحريك اجراءاته دون الاصطدام بعقبات تحول دون محاسبة النواب مرتكبي الجرائم تحت مظلة الحصانة البرلمانية ، وكذلك قرارها المرقم (67/اتحادية/2021) في 29 /9 /2021 الذي عدلت فيه عن حكم سابق يقرر عدم تعارض المادة (165) من قانون العمل العراقي رقم (37) لسنة 2015  التي حددت تشكيلة المحكمة من قاضي وعضوين يمثل احدهما صاحب العمل والاخر العامل مع المواد (19/اولاً) و (87) و(88) و(89) و(90) و(91) من الدستور، حيث قررت المحكمة عدم دستورية الفقرات (ثانياً) و(ثالثاً) من المادة (165) من قانون العمل سابق الذكر لتعارضها مع مواد الدستور ولكون المحاكم يتم تشكيلها من قاضي اجتاز المعهد القضائي ، وكذلك قرارها المرقم (7 وموحدتها 9 و10/ اتحادية /2022) في 3 /2 /2022 الذي عدلت فيه عن رأي سابق الذي يوجب قيام رئيس الجمهورية بتكليف مرشح الكتلة النيابية الاكثر عدداً في الجلسة الاولى ، حيث ذهبت الى عدم اشتراط تكليف مرشح الكتلة النيابية الاكبر عددا في الجلسة الاولى ، حيث جاء هذا القرار استجابة للظروف السياسية التي رافقت جلسة انتخاب رئيس الجمهورية الذي يرشح بدوره رئيس الكتلة النيابية الاكبر عددا لتشكيل الكابينة الوزارية وما رافق ذلك من اضطرابات سياسية  .

ثالثاً: بلورت المحكمة الاتحادية العليا في قراراها المرقم (158/اتحادية / 2022) في 16 /8 /2022 الضوابط الذاتية لعدول المحكمة الاتحادية العليا عن مبدأ سابق لها حيث جاء في حيثيات قرارها ( .....وللأثر الكبير للمبادىء التي يقررها القضاء الدستوري على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الدول فقد استقر الفقه والقضاء الدستوري على تقرير مبدأ العدول ، وهو احلال لحكم جديد محل حكم سابق في ذات الموضوع ، ويقتضي ان يكون العدول من مبدأ قضائي الى مبدأ قضائي اخر، اي انه لا يكون في القرارات والاحكام ذات الطبيعة الشخصية التي تتعلق بشخص او عدد محدد من الاشخاص ، وقد ذهبت التطبيقات القضائية الدستورية في اغلب دول العالم سواء في الدول العربية او في اوربا او في الولايات المتحدة الامريكية الى تقرير العدول لبعض المبادىء التي اكتسبت الحجية بموجب قرارات سابقه لها ، ويكون ذلك استجابة للظروف والمتغيرات التي تفرض على القضاء الدستوري وزن الامور الحادثة بمعايير المتغيرات التي تقع بعد صدور الحكم والتي تقتضي من المحكمة الدستورية اتخاذ رؤية جديدة تنسجم مع الظروف الحادثة من اجل تحقيق المصلحة العليا للبلد ، عدولاً ينعكس اثره ايجاباً على الحقوق والحريات العامة او على امن البلد او تقويم وتحسين عمل السلطات الاتحادية وحسن سير المرافق العامة في الدولة ، وهذا ما اقره النظام الداخلي للمحكمة في المادة (45) منه اذ نصت على ان ( للمحكمة عند الضرورة وكلما اقتضت المصلحة الدستورية والعامة ان تعدل عن مبدأ سابق اقرته في احدى قراراتها على ان لا يمس ذلك استقرار المراكز القانونية والحقوق المكتسبة )...) ، ومن الفقرة الحكمية سابقة الذكر يمكن ان نستجلي الضوابط او القيود الذاتية التي وضعتها المحكمة لنفسها للعدول عن قرار سابق وهذه الضوابط تتمثل في ( ان يكون العدول عن مبدأ قضائي سابق الى مبدأ قضائي جديد في ذات الموضوع ، ولم تشر المحكمة الى كون المبدأ الجديد يناقض او يتعارض مع المبدأ الاول في حين اشار الفقه الى ذلك ، ان لا تكون القرارات ذات طبيعة شخصية ، ان يكون العدول استجابة للظروف والمتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، ان يكون هدف العدول تحقيق المصالح العليا للبلد ودعم الحقوق والحريات العامة وحماية الامن وتحسين وتقويم عمل السلطات الاتحادية وضمان حسن سير المرافق العامة للدولة ) فضلاً عما تقدم فأن المادة (45) من النظام الداخلي للمحكمة رقم (1) لسنة 2022 حدد الضوابط القانونية للعدول ولتي تتمثل بـ ( ان يكون اللجوء للعدول في حالة الضرورة وتقدير الضرورة يعود للمحكمة ذاتها ، ان تكون مبررات العدول تتعلق بتحقيق المصلحة العامة والدستورية ، والضابط الاخير هو عبارة عن ضمانة وقيد في ذات الوقت تتمثل بعدم المساس بالمراكز القانونية والحقوق المكتسبة).

رابعاً: ندعو المحكمة الاتحادية العليا الى توسيع نطاق ضمانات العدول عن الاحكام القضائية وبلورتها عملياً في قراراتها القادمة مراعاة لمبدأ الامن القضائي المنوط تحقيقه بالمحاكم العليا باعتبار أن الأمن القضائي موكل للمحاكم العليا ويتجلى في جودة الأحكام وسهولة الولوج للقضاء واستقرار الاجتهاد القضائي بهدف ترسيخ الثقة بالمؤسسة القضائية ومن هذه الضمانات المستقرة بالقضاء المقارن هي عدم جواز العدول عن المبدأ الجديد طبقا لقاعدة ( لا عدول على العدول ) ، والعدول التدريجي عن المبدأ القانوني القديم لضمان تقبل المبدأ الجديد وعدم المساس بمبدأ (التوقع المشروع) وعدم مخالفة المبدأ الجديد لنصوص الدستور لان في ذلك خرق لمبدأ الشرعية ، وعدم سريان العدول القضائي باثر رجعي لما له مساس بالمراكز القانونية والحقوق المكتسبة ، وتعميم ونشر الاجتهاد القضائي الجديد ، وعدم الخلط بين تناقض الاحكام والعدول عنها ...والله الموفق

د.احمد طلال عبد الحميد البدري

بغداد 23/9/2022

مواضيع ذات صلة