قراءة بالأمر الولائي للمحكمة الاتحادية العليا في الدعوى المرقمة (213/اتحادية/2023)
د. منير حمود الشامي
كلما أحتدم الجدل السياسي داخل الدولة و اتخذ النزاع بين أفرادها شكل صراع معها حول حقوقهم وحرياتهم أو مصالحهم السياسية أو الحزبية، فإن وجود قضاء الدستورية يؤذن بتحول هذا الصراع من طبيعته السياسية إلى حلول قانونية توفرها هذه الجهة لأطرافه، فلا يتحول غضبهم على الدولة إلى الثورة عليها، بل تتوسط بينهم، وتُعيد بنفسها صياغة المسائل المتنازع عليها، وتُحيل ملامحها المختلفة إلى نقاط قانونية تُحيط بها، فلا يكون الحكم الصادر فيها إلا منهياً لتوتر قائم، يكون إطاره ومداه سيادة القانون وهدفه الصالح العام. وربما نلاحظ بقدر كبير من الدهشة أن الذين يديرون الحياة السياسية ويحكمون قبضتهم عليها، أو على الأقل يوجهونها وفق مصالحهم كثيراً ما يؤسسون نزاعهم مع خصومهم على قواعد من الدستور، ويطالبون تطبيقها لفض خلافهم.
ولا شبهة أن المحكمة الاتحادية العليا بأمرها الولائي في الدعوى المرقمة (213/اتحادية/2023) القاضي بإيقاف تنفيذ امر السيد رئيس مجلس الوزراء / القائد العام للقوات المسلحة المؤرخ 25 /8 /2023 المتضمن (اخلاء المقر المتقدم لقيادة العمليات المشتركة في محافظة كركوك)، استطاعت الانتقال بالنزاع من طبيعته السياسية إلى الصورة القضائية التي آل عليها، فعززت دورها وزادت أهميتها ونفوذها ومن تأسيسها لسلطتها على دعائم من الدستور، ومن انهائها بشكل مؤقت النزاع السياسي لنزاع قانوني كان من الممكن أن تكون له نتائج خطره على الدولة العراقية في حال استمراره. اذ استطاعت المحكمة استنباط اختصاصها بالنظر بهذا النزاع ومن ثم اتخاذها لقرارها بشكل رائع وملفت من خلال الدستور بديباجته ونصوص دستورية أخرى كنص المادة (1) ، (3)، (7/أولاً) وكذلك بعض نصوص قانون الاحزاب رقم 36 لسنة 2015م، تقديراً منها بان نصوص الدستور لا يجوز فصلها عن محيطها، ولا عزلها عن بيئتها التي تتغاير أوضاعها، إذ يُشكل الدستور بديباجته وجميع نصوصه نسيجاً مترابطاً، وكلاً لا يتجزأ، وتتكامل أحكامه في وحدة عضوية متماسكة، وهذا ما ذهبت المحكمة الدستورية العليا في مصر بقرارها المرقم 11 لسنة 13 قضائية لسنة 2000م، إذ تقول :" لا يجوز بالتالي أن تفسر النصوص الدستورية بما يبتعد بها عن الغاية النهائية المقصودة منها، ولا أن ينظر إليها بوصفها هائمة في الفراغ، أو باعتبارها قيماً مثالية منفصلة عن محيطها الاجتماعي".
وبالتالي فمن المنطقي أن تؤثر جهة الرقابة الدستورية في كافة أشكال الحوار والاتفاقات السياسية ، وأن تُعيد تشكيلها من منظور الحقائق القانونية التي تتصل بها، وأن تفصل فيها على ضوء مفاهيم وقيم الدستور ومصلحة الوطن والمواطن. وهكذا يجب خضوع جميع المفاهيم السياسية والاتفاقات الحزبية بجميع أشكالها وصورها للدستور، وهذا من صميم عمل المحكمة واختصاصها، فلا يمكن أن يكون دور الاغلبية الحاكمة مؤازرة الحكومة في أخطائها أو باتفاقاتها الحزبية التي تجانب الدستور والواقع الاجتماعي. فالدستور وثيقة تُحيط بالسياسيين جميعهم في أفكارهم ومثلهم وتوجهاتهم وتصرفاتهم لا يمكن لهم التغاضي عنها بأي حال من الاحوال .